إنعام أسعد – التحرش الفكري

إننا مخلوقات ظرف وحسب، نعاني من وهم المألوف الذي يحفر بإزميله في وعينا الاعتيادي الخواء الكئيب، ولا نمتلك أدنى رؤية تتيح لنا الإبحار إلى الحقائق المنافية للزيف والترائي والخداع.

إذ، وعبر الزمن، فقدنا حصانة العقل وعذرية التفكير والحواس، حدث هذا بعد أن استأثرت قوى بشرية نافذة وطاغية على خرائط الوجود والموجودات ورؤوس الكائنات.

وها هي تعيد إنتاجنا وتعمل على تكرير ذواتنا في معامل ومصافي شهواتها وغرائزها لتجعل منا (منتج خاص) قابل للاتجار به عبر عمليات مبادلة الموت بالحياة (استيراد الموت لنا، وتصدير الحياة لهم) وغايات أخرى خفية من أجل قضاياها المادية الوضيعة.

أما من نحن بكل الأحوال؟

لطالما كانت قيم الجسد (قيم التراب) أولوية لدينا، إلاَّ أنها أولوية ولا شيء يأتي لاحقاً.

فقيم الروح تم العبث بها بحرفية واخزة، وتم تجنيد طاقات مسعورة لخرق منظومتنا وتفتيتها إلى أجزاء وانكسارات وشظايا لا يمكن بعدها لملمة ما تساقط، ونحن لم نكن مستعدين قط لأي (غفلة) وكنا جميعاً كائنات في مهب الظروف والخطط والمصادفات والفوضى

أما فيما يتعلق بِـ (رهافة الأخلاق) و(حس النبالة) فقد صُودرت من مناهج التنشئة والتفكير والتعبير على حدٍ سواء منذ نعومة جهلنا عبر كل قوى التأثير الممكنة من الدوائر الأصغر إلى الدوائر الأكثر اتساعاً، بدءاً من الخلية الأولى (العائلة) إلى المدرسة ومناهج التعليم ومسارات المجتمع ومعاييره الصماء العمياء، وكل هذا شكل البيئة المثالية لمن يتربص بنا بقيمه الهدَّامة والمدمرة عبر آليات وأذرع هو أدرى بمفاعيلها التي تتأبط الشر والخبث.

وانطلاقاً من هذه المنصة، بدأت تلك المجموعات البشرية الكاسرة في رسم ملامح جديدة لهذه الكائنات التي تُدعى (نحن) إذ عملت على مصادرة كل ما نملك من طاقات الحياة، وبدأت تتحكم بحواسنا وعقولنا عبر غرف عمليات سرية وسيناريوهات يعود تاريخها إلى أزمنة بعيدة، وحالياً عبر مؤسسات إعلامية فتَّاكة تقف خلفها إمبراطوريات مالية عملاقة.

هو المال (نسغ الشيطان) باع من باع واشترى من اشترى في هذه الأمة، إنها الأرض بعيداً عن تكاوين السماء، مما أدى إلى تحويل إنسان منظومتنا لـ (شريحة إحيائية) يتم شحنها بثقافة لاذعة تخضع لمؤثرات بصرية وسمعية عبر سياسة الإخبار، فالأذن والعين (الصوت والصورة) كانا طعماً مثالياً للتحرش واغتصاب الرؤوس والعقول.

إنه بحق ما نستطيع أن ندعوه بالتحرش الفكري.. وهنا نسأل ما هي غاية المتحرش فكريا؟.

لعل أهم أهدافه هو تحويل رؤيتنا باتجاه ما، وجعلنا ننظر و نفكر بطريقةٍ يقودنا من خلالها إلى اللعب على حبائل غرائزنا التي تلتف في نهاية المطاف حول أعناقنا وتقضي علينا، من أجل أن يحيا هو و يحقق مقاصده في ثرواتنا ومقدَّرات إحداثياتنا التي ينشدها لذاته ليزهو في عالمه بالرفاء والرخاء.

يحدث كل هذا بنا نتيجة فقدان الحصانة و المناعة المجتمعية، و بسبب (الدرع الشفاف) الذي يسهل اختراقه بسهم الأمية، أمة غارقة بين جهلين جهل الحرف (الأمية)، وجهل المحروف بمعنى إلى أي مُنحَرفٍ يقودنا الحرف وهو (جهل مثقفي الأمة).أمةٌ لا تقرأ، أمةٌ يُقرأ لها ما يُراد منها.

كما ويحدث هذا جرَّاء افتقاد هذه الكائنات إلى رابط الحس الجمعي الذي يوَّحد رؤاها، طاقاتها ومقدَّراتها باتجاه هدف ما يسمو بها و يجعلها كتيمة وغير نفوذ، إلاَّ أن (الفردانية) طاغية في غي أفكارها ونسيج أهوائها، و الشيء الوحيد الذي يجمعها هو إحساس كل فرد منها أنه (أمة).

وهكذا تكون غاية المتحرش فكرياً ووجودياً هي توجيه كافة إمكانيات تلك الشعوب إلى أسلحة تُستخدم ضد الذات، حيث يبدو المشهد كانتحار جماعي، في حين يكون لدى الأفراد نزعة يقينية في أن ما يحصل هو لأسباب وغايات سامية.

وهنا مكمن العقدة في كل ما ذُكر، وهو أن المُتَحرَّش به لا يملك أدنى دراية لا عن التحرش ولا عن المُتَحرِّش، وكأنه في حالة (تنويم مغناطيسي) من خلالها يتم سلب هويته، وطنه، أرضه، مسكنه و أخيراً أنفاسه.

علماً أن كل هذا الحفل الدموي الذي لا ينتهي لفعل (التحرش) هو في نهاية المطاف لغاية بعيدة يُعمل عليها منذ الآن وهو (التطهير العرقي والعددي)، لأن هذا (العرق) عرق ملوِّث وكم مُهمل في هذه البقعة من العالم الزاخرة بكل الإغراءات التي تصبو إليها أنفاس وغرائز ذاك (المتحرش) المتوحش.

هنا، وفي هذه الأمة، يقف السؤال حائراً على ضفاف اللحظة (إلى متى)؟.!! ويتساءل السؤال مرة أخرى عن توفر أية (منارة) في هذا العالم الضاري الذي يمور بالمكائد والدسائس والفظائع، والذي يزداد ظلمة باطراد.. كيف لنا أن نرَّشد الوعي واللاوعي الجمعي، ونتحرر من هذا (العصاب الفكري)، ونخلَّص بذلك (الروح الحر)، لنحيا كما تحيا باقي الأمم الدارجة على وجه الغبراء بثقافة الحياة لا بثقافة الموت والفناء.

وهل من مشروع يلوح في كوامن الأفق ونحن في تلك (الهوة السحيقة) ينقذنا في اللحظة الأخيرة؟.أم أن الزوال هو أسهل الحلول؟.. من هنا يجب أن نبدأ.

You may also like...

0 thoughts on “إنعام أسعد – التحرش الفكري”

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحميل المجلة

شرفتي.. المقال الصحفي…… هل ما زال؟!

رئيس التحرير
الدكتور وليد السعدي

Polls

هل انت مع منع لعبة البوكمن في البلاد العربية ؟

Loading ... Loading ...
Facebook
Google+
Twitter
YouTube
Instagram