ريح في قفص … الغزو المجهول للمريخ

زكريا تامر

عرفته كل المؤتمرات والندوات والمهرجانات المتنوعة الغايات وكل الجرائد والمجلات والمحطات التليفزيونية والإذاعية كاتباً كبيراً مختصاً بمعالجة القضايا الكبرى المصيرية، وخبيراً بكل شيء، وعالماً بكل العلل، ومالكاً لكل الأدوية الشافية، ومتمتعاً بقدرات تؤهله لأن يفعل بوقار ومهابة كل ما لا يفعل:

مشى بنجاح على كل الحبال المرئية وغير المرئية.

دخل كل مخادع المسؤولين ومخافرهم ومصارفهم، ودخل كل السفارات من أبوابها الأمامية وأبوابها الخلفية، فكل السفارات سواسية، لا فرق بين سفارة وسفارة..

أتقن الوثب من الوادي إلى القمة، وعرف جيداً ذهب وفضة من يقال إنهم المرجعية المتزمتة، وصعد إلى أعلى بفضل من يقال عليهم إنهم اليسار المتطرف، الذي لا يهادن ولا يساوم ولا يباع..

لم يترك مذهباً إلا واعتنقه بحماسة، ونبذه بحماسة، وعاداه بحماسة، بحجة التطور الفكري والوعي اليقظ والتغير نحو الأفضل..

لم يترك رغبة إقليمية أو طائفية إلا واستخدمها مجدافاً يوصل قاربه إلى الشواطئ بأسرع وقت..

لم يترك حاكماً إلا وامتداحه، ثم هجاه، ثم امتدحه، فهو أول من أكل وآخر من شبع.. أول من يأكل حين تكون المائدة كثيرة الطعام، وأول من يركل المائدة حين يتضاءل طعامها..

لم يترك امرأة أو حكومة إلاّ وتغزّل بهما، مغرياً الآخرين بالتنبه إلى ما خفي من محاسنهما، فإذاً أجره أجران..

لم يترك تنظيماً سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً إلا وعامله كأنه خروف يذبح ويؤكل لحمه ويسلق عظمه، ويستفاد من صوفه وجلده.

وقد جاء وقت تضجر فيه من وطنه العربي، الذي بات بالنسبة إليه مجرد قشور فاكهة مأكولة، وبدا له مزيجاً من السجن والقبر، فتحوّل رائداً من رواد الفضاء، وطار بغير أجنحة، ومن دون أن يحتاج إلى صواريخ ومركبات فضائية، فكان ما فعله أشبه بمعجزة، وكان أول مخلوق بشري تطأ قدماه أرض كوكب المريخ.

وسار الكاتب الكبير في مدائن المريخ المكتظة بالحياة والأحياء باحثاً عما يصبو إليه، فلم يجد من يرغب في المديح، ولم يجد من يخاف من الهجاء، ولم يجد من يحترق توقاً إلى الحفاظ على منصب، ولم يجد من يطمع في ثراء سريع، فاضطر الكاتب الكبير إلى العودة إلى وطنه العربي آسفاً قانطاً، ولكن قنوطه لم يستمر، فوطنه العربي لايزال سوقاً كبيرة، وكل بائع بارع يستطيع أن يبيع أحقر السلع بأغلى الأسعار.

من كتاب (هجاء القتيل لقاتله)

You may also like...

0 thoughts on “ريح في قفص … الغزو المجهول للمريخ”

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحميل المجلة

شرفتي.. المقال الصحفي…… هل ما زال؟!

رئيس التحرير
الدكتور وليد السعدي

Polls

هل انت مع منع لعبة البوكمن في البلاد العربية ؟

Loading ... Loading ...
Facebook
Google+
Twitter
YouTube
Instagram