أوعية متصلة ……… مديح المخيّلة

محمد علي شمس الدين

مديح المخيّلة
ما الذي يدفع طفلاً في الثالثة من عمره، أو أكبر بقليل، إلى أن يفاجئك وأنت تحزز برتقالة وتضع قشورها على الطاولة، إلى أن يأخذ قشرة منها على شكل زورق، ويسافر على متنه، في لعبةٍ فيها من الغرابة ما فيها من الفطنة.. وتطرح لسؤال: ما الذي يجعل الطفل يسافر في جزّ برتقالة؟، أهو محض اللعب؟، أم أنّ في ذلك إشارة رائعة إلى ما هو أبعد من اللعب؟ إلى المخيلّة؟
غالباً ما يطرح سؤال حول ما يصنع الفنّ.. القصيدة، اللوحة، الموسيقى.. الخ ما هو؟، أهو تقليد الطبيعة أم تجاوزها؟، وإذا كان الميل الغالب للإجابة، من أرسطو حتى اليوم، هو أنّ ما يصنع الفنّ ليس نسخ الطبيعة الخارجية، بل تجاوزها نحو طبيعة أخرى داخلية، خاصة، فإن الأداة العظمى لهذا التحول هو الخيال، إنّ الغوص في اللوحة الفنية هو تدريب رائع لعين الخيال، حيث تتعلم المخيّلة أن مديح تنظر، وحين يمكن لرسام أن يقول، إنه، بعد أن يفتح عينيه على المشهد رغبة منه للخروج إلى العراء إلى النور، يعود فيغمضهما ليرى مشهده الداخلي الخاص باللوحة، وهو المشهد الحقيقي لهذا الفنّ، على الرغم من أنه فنّ بصري في الأساس.
يقول ميكال أنج: الرسام لا يرسم بريشته بل بمخيلته.. ويقول بيكاسوّ، وريث غويا، وكلاهما إسباني فلسفي صارم: (رؤية الذهن فوق رؤية العين).. فالمخيلة تنقل الصورة في الرسم كما في سائر الفنون، إلى حقول بعيدة خلاقة ومبتكرة، هي بالضرورة المفتاح السحري للفن.. وربما تصح العبارة أنها المفتاح الميتافيزيكي للفنّ، إذ إنه منذر رسم الإنسان الأوّل على جدران كهوف ألتاميرا، من حوالي 45 ألف سنة خَلتَ، قطيع أبقار يدق الكهف بحوافره، حتى رسوم دالي وبيكاسو وما غريت في العصور الحديثة، فإنه ما زال السحر هو الذي يصنع اللوحة.. أي خداع الواقع وتحويله وتحويره.
يقول بيكاسو، تجاه رسومه الاعتباطية: (الأسطورة هي التي تعيش).. ولعلّ من أوائل الذين التفتوا إلى هذه المسألة، كان الشاعر اليوناني هوراس (HORACE) الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد، فهو حين ألف كتابه في فن الشعر، افتتحه بفصل عن الرسم وكيفية الاشتغال على تركيب الصور، متكلماً على امرأة باهرة الجمال، نصفها الأعلى امرأة ونصفها الأسفل سمكة، موجهاً حديثه إلى آل (بيزو) قائلاً: إن الأساس في الشعر كما في الرسم، هو حرية الفنان في الابتكار.. وأنه ينبغي وجود السحر في الفن في جميع الأحوال.
وبمقدار ما تخاطب اللوحة المخيلة، فإنها تغدو أكثر جدارة بالبقاء والإيحاء، لأنه على الأرجح، نعثر على أعظم مجرى للأحوال البشرية بما في ذلك قسوة الزمن واصطراع الغرائز، في الفنّ وليس في الحرب. يقول رودان: (عندما تمشط امرأة شعرها، فأنها تقلّد حركات النجوم)، وإنّ صورة غويا المحفوظة في متحف البراد، في إسبانيا، لرجلين غائصين في الوحل وهما يقتتلان، هي ثورة تختصر أزمنة من الصراع البشري المرير على امتداد آلاف الحروب والاجتياحات.
ولعلْنا لا نبالغ إذا قلنا إن كثيراً من الفلسفات القديمة والحديثة تم تأسيسه على الفنون، يكفي أن نشير في القديم إلى أن فلسفة العرب وحكمهم قائمة في ما خلفوه لنا من أشعار.. وأنه في العصور الحديثة، كثيراً ما كانت مرجعيات الفلاسفة الألمان من أمثال هيدغر وهيغل ونيتشة، مأخوذة من أشعار شعرائهم الكبار من مثل نوفاليس وشيلر وريلكة وغوتة، وقد وجد هؤلاء الفلاسفة أيضاً، في صوَر الرسامين، كما وجدوا في أشعار الشعراء، شواهد على تأملهم في الحياة والموت والدين والحب والزمن.. نشير بشكل خاص إلى الفلاسفة المثاليين منهم، الذين رأوا أن العمل الفني الكامل فوق الزمان وفوق المكان..
لقد اختلف، على سبيل المثال، في لوحة (حذاء الفلاحة) للرسام فان جوخ فيلسوفان ومؤرخ فني.. فإن الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، كما يقول الناقد الفني كارستن هاريس، امتدح من خلال حذاء الفلاحة في الصورة حياة الفلاح والأرض، وقدم نقداً للمدنية الحديثة.. لكن الفيلسوف الفرنسي التفكيكي جاك دريدا، لاحظ أنّ هايدغر أخذ من حذاء الفلاحة شاهداً على نظريته في أصل العمل الفني.. أي إنه أخذ منها أداة لشرح نظريته الفلسفية في الفنّ.. فمن خلال حذاء فان جوخ والمعبد الوثني، تأسس عالم إنساني على الأرض، هذا على الورق أو القماش، وذاك من خلال الحجر.

You may also like...

0 thoughts on “أوعية متصلة ……… مديح المخيّلة”

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحميل المجلة

شرفتي.. المقال الصحفي…… هل ما زال؟!

رئيس التحرير
الدكتور وليد السعدي

Polls

هل انت مع منع لعبة البوكمن في البلاد العربية ؟

Loading ... Loading ...
Facebook
Google+
Twitter
YouTube
Instagram