رؤى ثقافية ……. مراهقة مأزومة.. شيخوخة مقدسة

د. هيفاء بيطار

مراهقة مأزومة.. شيخوخة مقدسة
لا يخفى على من يتأمل المجتمع الفرنسي -وخاصة في باريس- ذلك التناقض الغريب والمعيب بين الأجيال، إذ ثمة شرخ هائل في المجتمعات الرأسمالية عامة والمجتمع الفرنسي الذي أزعم أنني أعرفه جيداً بحكم زياراتي المتكررة لباريس لأسباب عائلية.
لاحظت -وعلى مدى سنوات- أن عمر المراهقة في فرنسا بين 12 و16 سنة أو 17 سنة مأزوم جداً، ويعاني من مشاكل خطيرة منها وأهمها: الحرية الجنسية المبكرة، وثانياً الإدمان على المخدرات، رغم أن الإعلام والمسؤولين في الدولة يتناولون تلك المشاكل بالتحليل والبحث في الأسباب لكنها تظل مستفحلة. وأعتقد أن أهم أسباب لانزلاق المراهقين إلى علاقات جنسية مبكرة لا يقدرون عواقبها النفسية والجسدية هو إحساسهم بالفراغ والخوف والوحدة، حيث الأهل مشغولون عنهم بساعات عمل طويلة، ويعودون إلى البيت مهدودون من التعب وتقتصر وظيفة الأهل في هذه الحالة بما يشبه وظيفة الشرطي، أي إعطاء مجموعة أوامر للأولاد بخصوص دراستهم وواجباتهم ونظافتهم، الأهل المساكين يعتقدون أن العملية التربوية عبارة عن سلسلة نصائح وتوجيهات، ولا يدركون أن الحديث الحميم -أي حديث الروح للروح والقلب للقلب والفكر للفكر- هو الذي يحمي الأولاد من الانزلاق في تجارب جنسية كارثية قد تترك أثراً مدمراً على حياتهم كلها. وكم تأملت مجموعة من المراهقين يقفون في طابور لحضور لشراء بطاقات حضور فيلم سينمائي، وكانوا يتبادلون القبلات الرخوة بحكم الضجر وحده، ولأنهم لا يعرفون كيف يملؤون أوقات فراغهم، لم أقتنع أبداً أن تلك القبلات تعبر عن الحب، بل تعبر بدون ذرة شك عن ضجر وجودي عميق.
مؤسف أن يتشوه الحب بتلك الطريقة وأن يجد هؤلاء الأطفال الكبار أنفسهم في مهب عاصفة من الحرية التي تربكهم ولا يعرفون كيف يتعاملون معها، وكم هو مؤسف وخطير أن تقوم أم بتقديم نصيحة إلى ابنتها المراهقة بأن عليها استعمال حبوب منع الحمل عند إقامة علاقة جنسية مع صديقها، كما لو أنها تنصحها باستعمال أقراص فيتامين.
­­الخطر الذي ينافس خطر الحرية الجنسية المبكرة في أوروبا (وأعطي هنا باريس مثالاً لأنني أقضي فيها أشهراً طويلة) هو إدمان المخدرات التي تعوض للمراهق نقصاً عاطفياً كبيراً يعاني منه ولا يعرف كيف يعبر عنه، والتي تعطيه نشوة وفرحاً كان يتمنى الحصول عليهما من الأهل، لكن المجتمعات الرأسمالية تطحن الفرد وتستلبه وتستنزف طاقاته، فيعتقد الأهل أنهم يقومون بمهامهم بتأمين الحاجات المادية للأولاد من مأكل وملبس وحفنة ملاحظات، وقد غاب عن ذهنهم حاجات الروح للتفهم والبوح العميق.
لكن من المقلب الآخر أكاد أروع من الإفراط لحد الهوس بالعناية بالعجائز والذين غالباً تتجاوز أعمارهم 90 سنة.
وبالتأكيد أعترف أن العناية بالعجائز نفسياً وجسدياً هي قمة في الإنسانية، لكن أن يخصص طاقم كامل لإجراء حمام يومي للعجوز، وأن تخصص طائرات هيلكوبتر لإسعاف العجوز المصاب بحالة إسعافية، وأن يوجد طاقم كامل من الموظفين الذين يقبضون رواتب ليقوموا بالعناية بالعجائز في بيوتهم، كل ذلك لا يمكنني فهمه إلا على خلفية أزمة المراهقين المتروكين بلا عون ولا معين لعواصف الغرائز الخام، والتي لا يملكون أية خلفية معرفية وحياتية وثقافية للتعامل مع الغرائز الخام المتفجرة في أجسادهم.
وللأسف، المراهقون في أوروبا بشكل عام تعساء ومهددون بمخاطر كثيرة، أما العجائز فيتمتعون بأقصى قدر ممكن من العناية الجسدية والنفسية.. فمن يردم هذا الشرخ.. لأن المستقبل يبنيه الشباب.

You may also like...

0 thoughts on “رؤى ثقافية ……. مراهقة مأزومة.. شيخوخة مقدسة”

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحميل المجلة

شرفتي.. المقال الصحفي…… هل ما زال؟!

رئيس التحرير
الدكتور وليد السعدي

Polls

هل انت مع منع لعبة البوكمن في البلاد العربية ؟

Loading ... Loading ...
Facebook
Google+
Twitter
YouTube
Instagram