و»للهايكو«.. ربيع عربي أيضاً

غادا فؤاد السمّان

(جنازات الدمى) أرعبني المشهد بدون مقدمات، إذ ثمّة عزاءٌ صامت بلا ضجيج اختطفَ الطفلة التي في داخلي بمنتهى الجلبة، فقد خشيتُ على (دميتي) أن تكون على متن القافلة، وَلَجْتُ الموكبَ بذهولٍ تامّ وكانت الدهشة عزائي الوحيد، إذ كانوا كثرٌ هناك حيثُ الشعر وحيث ربيع الأتات وثمة اسكندر حبش، ودون تردّد سلّمتُ لقضاءِ الصورةِ وفضائها، فاسكندر حبش لم يكن الجاني الوحيد الذي استحضر الكثير من الدلائل المعرفيّة لما اقترفه ربيع الأتات ليبرّر الدلالة الشعرية باسم الهايكو، مفصّلاً الأحداث بوقائع تاريخية تعود إلى منشأها الأصلي (اليابان) المنقولة بالترجمة للعربية منذ القرن التاسع عشر، بسرد حيثيّات بناء بنية القصيدة في المقدمة كدراسة ومرجعية أكاديمية لم ترقْ لي في الوهلةِ الأولى، إذ بدتْ صرحاً شاهقاً يصعبُ التطاول المعرفي أمامه أو القفز عنه أو حتى اختراقه، وعمدتُ لقراءة ثانية أقلّ تسرّعاً، إذ ليس من السهل مدّ النظر إلى عالم يكتظّ بالتفرّد والاختلاف كعالم (اليابان) الذي أوجد الآله ليس للإنسان فحسب، بل أوجد الإنسان الآلي أيضاً، فهل يعقل أن هذا العالم العلمي المحض، أن يعرف الشعر ويكترث بفضاءاته الوهمية، وكان لابدّ من القراءة الثالثة للمقدّمة وأنا انتقل إلى محيطات ربيع الأتات أنتشل منها محارة تلو الأخرى، أتصيّد لؤلؤة شعرية هنا وصورة هناك، ثم أعود إلى ذهنية حبش المدوّنة بمعرفيّة عالية وتوثيق دقيق جداً، لايمكن الاستهانة به أو الاستهتار.
وهنا لم أعد أشعر أنني مجرّد قارئة عابرة للصفحات أو السطور ولا حتى مجرّد متذوّقة لكتابة شعرية أعرفها أو لا أعرفها، أكتبها وربّما تكتبني، فقد تحوّلت إلى باحثةٍ متواطئةٍ بين مجتهدين الأول أي اسكندر الذي استهلّ المجموعة بشبكة معرفية ليس من السهل الخروج منها، والثاني أي ربيع الذي أدخلني غرفة إنعاش (طقسية) مجهّزة بأناقة وبساطة وعناية فائقة تذكرني بعالم (نيس ريتسوس)، الذي لم أعد أجدهُ في الكثير من النصوص الغارقة بالتلوّث كما كلّ شيء.
وأعترف أن ذهنيّتي قد أدمنتْ مبدأ الاستخفاف عند قراءة الكثير من النصوص، كما سيفعل أحد (السذّج) بمنحوتتي هذه المستوحاة من هاوٍ كـ (ربيع) الذي حمل المبضع قبل القلم ومن ثمّ عاد إلى رشده السحري أقصد الشعري، فقراءتي الحرّة المُعتادة لضمان المتّعة الشعريّة في حال وُجِدَتْ أتأنّى في جنوحها دون تحضير مُسبق ودون إملاء.
رفضتُ في البداية تحديدَ مسارَ تسمية (الهايكو) لقصيدة الأتات التي أبرمتْ حكمها على الغلاف، وتعاقبت الأسئلة في داخلي بشيء من العجرفة وكثير من الاستكبار مستندة إلى تاريخ طويل من المتابعة الشعريّة قراءةً مرّة وكتابةً مرّات، وكُدْتُّ أصدرُ بدوري الأحكام التعسفيّة على قصائد الأتات، وأنا أتذكّر (جاك بريفيير) الذي عُرف عن قصيدته بانتمائها إلى أدب (الإيبي غرام)، وليس هذا وحسب بل كدّتُ أرفع أصابع الاتّهام تجاه بعض القصائد التي غلبت عليها بعض اللغة التقريريّة كما في بعض المقاطع ومنها:
عند برج (إيفل) بائع أسمر لقبعات كتب عليها أحبّ نيويورك / ص 36
/صباحاً يخفي برج “إيفل “ الضباب / ص 82 .. إلخ.
ولم يكن من ملاذ سوى العودة مجدّداً لمقدمة حبش التي تتحدّث عن شروط الهايكو وأهمها العلاقة مع المحيط وتحييد المجاز بالكامل، وهكذا أصبحت القصيدة تحزّ (فيَّ) برهافتها المثيرة للجدل عنق الانتباه، وتوسّع عيني الحذر والتيقّظ، فكلما أوغلت قُدُماً في قصيدة الأتات أدركتُ أنني داخل (مفاعل) شعريّ، تأمّلي، عالي التركيز، تحتاج معه إلى قُفازاتٍ عازلة للحفاظ على هدوئها المُستفزّ، وأيّ فهم مغلوط يمكن أن يؤدّي بك إلى انفجار المشهد واحتراقك بفرط حساسيته المُدهشة، لجهلك المُسبق بالتركيبة الفعلية لقاموس الأتات الشعري، والخلطة السرّية لمحبرته الداكنة جداً رغم الغلاف البريء الذي يغلق بها على كامل السرد ليحدّ السياق بمهارة تأمّلية واضحة، وحنكة لفظية مستترة، وبساطة مشهدية منقطعة (التنظير)، والدهشة أن تقرأ لشاعر يحاكي الشاعر الذي في داخلك، يخرجه عن صمته، يخرجه من بلادته وكسله ولا مبالاته المزمنة، يحرّضه للكتابة، للكلام، للصورة، للحلم، للتأمّل، للرقص، للجنون، للغياب، يزاحمه، ينافسه، ينتقل إليه بعدوى الشغف الفتّاك، يتحدّاه أمام قلمه، إلى أن تصير الورقة الأخيرة حلبة صراع بين أناك وبين الأتات.
جنازات الدمى لعلّها تحاكي في لا وعيها أسطورة (أدونيس) الذي قضى حبّاً لإحياء مواسم الخصب على شرف (عشتار)، وهكذا الأتات يعلن ثورته الشعرية على البشرية المزيّفة، على الأشباه من الكائنات التي تدّعي إنسانيتها، على العلاقات المرقّعة والمشاعر البلاستيكية التي غلبتها المصالح، على الأفئدة المتحجّرة التي أعلن موتها تماما، هكذا شيّعها بموكب شعري حاشد إلى مثواها الأثير، لتنهض الإنسانية بصدقيّة بلغية، وحميميّة أبلغ، وأفق يتّسع للتأمّل والبوح، كما في (الكينونات) الشعرية التالية: /يؤخر اعتذاري نبيذٌ وجبن الذاكرة / يفصلني عنك جدار بنيناه معاً / الحب المهجور ينسى الطريق إليك / ص 18 / من ثقوب أربطة الأحذية يمرّ شتاء المتسولين / ص 47
مهما رصدنا في جنازات الدمى، تبقى المحصّلة عاجزة عن الإحاطة الكاملة لما ورد في المجموعة حيث ترتصف (نعوش) الشعرية بوداعة تامّة وأناقة جليّة البصمات، مدفنها الأكيد داخل أذهاننا، وداخل أفئدتنا لتنبض بنا وننبض بها، ريثما نستعيد جدوى الوجود برمّته.

aaa1

You may also like...

0 thoughts on “و»للهايكو«.. ربيع عربي أيضاً”

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحميل المجلة

شرفتي.. المقال الصحفي…… هل ما زال؟!

رئيس التحرير
الدكتور وليد السعدي

Polls

هل انت مع منع لعبة البوكمن في البلاد العربية ؟

Loading ... Loading ...
Facebook
Google+
Twitter
YouTube
Instagram