الفنان التشكيلي محمد الشاعر: العطاء الفني وليد المخاض بين الإنسان ومجتمعه

حاورته – إلهام أبو جودة

في لوحاته، تكون المعادلة بين اللون والخط في توازنها الفاعل.. يضفي عليها الوهج الإنساني فتأتي اللوحة مكتملة بذاتها.. منتمية إلى واقعها تأخذ منه وتعطيه … فلا هي صورته.. ولا هو آسرها.
ففي لعبة الإبداع.. يقف محمد الشاعر على خط التماس بين شفافية التجلي وبين وضوح المرئي، ليقول بريشته الواعية أن الفن تصنعه الحياة، وأنه يصنعها في حالة واحدة هي الانتماء لهذه الحياة.. التقته (المنارة) في بيروت وكان هذا الحوار:

• لو أنك جئت من بيئة أخرى غير الريف، هل كانت لوحاتك تبقى مليئة بهذا الزخم من العفوية والارتباط العميق بالطبيعة والانسان؟.
•• الفنان ابن بيئته، كما المبدع أو الإنسان بشكل عام، ومهما قيل عن الفن، يبقى العطاء الفني هو وليد المخاض ما بين الإنسان ومجتمعه وبيئته، لأن ما نشاهده من عطاءات فنية غربية تعبّر عن واقع يعيشه الفنان في بيئته الخاصة، فالفن الياباني يختلف تماماً عن الفن المكسيكي، كما الإسباني والأميركي، وبالتالي هذا القول يجرّ نفسه على واقع الفن في عالمنا العربي، فهناك اختلافات معينة أو ما بين الفن في مصر مثلاُ وبين الفن في الشام ولبنان وفلسطين، وتبقى المواضيع الأساسية التي منها ينبع الفن كالتراث والأصالة والثقافة والطبيعة، كما الإنسان عندنا، هناك قرابة في جوانب عديدة من هذه الموضوعات في مجمل الفن العربي.
لكن طفولة كل فنان تميزه، والبدايات الأولى تكوّن في ذاته الإنسانية وأحاسيسه الداخلية الدفينة، والتي لا يستطيع إلا ان يعبّر بإبداعه عن جزء من هذا المخزون العميق في النفس، وخصوصا الجانب الجميل من حيث جمال الطبيعة، وجمال التراث والزي والبناء، إلى ما هنالك من معطيات تزيد اللوحة قيمة فنية عالية، وتحيطها بهالة من المعطيات الإبداعية التي تنقل إلى نفس المشاهد بعض السعادة والفرح اللذين نحلم بهما خارج واقعنا المكسور.
الريف حمّلني بساطته وعفويته، شحن طفولتي بالعشق والتشظي فجاءت لوحتي كما قلت عنها مليئة بالحرية والإنسان والطبيعة.
• كأنك تود القول، إن الفن لا يستطيع الخروج عن الإنسان والطبيعة؟.
•• ليس هناك في الحياة أجمل من الإنسان، وهناك قول عامي (الجنة بدون ناس ما بتنداس) يؤكد ذلك.
الحضور الإنساني هو عصب حركة هذه الحياة، وبالتالي فالإبداع المهم والعميق هو الذي يتناول هذا الإنسان بجماله وشموخه وطموحاته واحلامه، لأن الإنسان بطاقاته الداخلية أكبر مما يتراءى لنا في مظهره الخارجي رغم روعة وجمال هذا المظهر وخصوصا المرأة في الجانب الإنساني، يلي ذلك الطبيعة، جمال الطبيعة مكمّل لهذا الحضور، والتصاق الأرض بالإنسان، يؤكد أننا من جبلة الطين التي هي روح الأرض وهي سر مكوّنات هذا الجمال، فبفضل علاقة الإنسان بالأرض تتجلى الطبيعة بأحلى سماتها، وبسبب تلك العلاقة نعرف سر معاناة الإنسان وتضحياته ونضاله من أجل ان يبقى ملتصقاً بالأرض، يتنازل عن حياته قبل ان يتنازل عن هذا الجزء المكمل لوجوده. ومن هنا فاللوحة التي تحمل هذه المعادلة، هي لوحة صعبة المنال، وإذا استطاعت أن تحمل المقومات الأساسية للوحة جدية ومكتملة، نستطيع أن نقول عنها إنها لوحة متميزة ومنفردة تعبر عن بصمات فنان صادق مع ذاته وعميق، ويحمل خصوصية اسمه ولمسة ريشته.
• أيوصلنا هذا إلى أن الكثير من الفنانين والكثير من اللوحات التي ترسم خارج هذا الإطار بعيدة عن الفن الحقيقي؟.
•• تقليداً لما يحصل في الغرب من عبثية وصرعات تمثل واقع وبيئة بعض من هذا المجتمع الغربي، واستسهالاً من فنانينا أو ممن يتقربون إلى الفن في تقليد هذه الموجات، وابتعاداً عن الصعوبة التي يمثلها كما ذكرت رسم ما يتعلق بالإنسان والأرض والطبيعة، بحيث نحتاج إلى قدرة فنية عالية وتقنية متمكنة للخروج بلوحة مقبولة إلى المشاهد، تبقى الوسيلة الأسهل للهروب هي التعامل مع شكليات اللون دون الخط، وفي بعض الأحيان حتى دون اللون، إنها أسهل وأقصر الطرق لعرض لوحة دون أن يتمكن الآخرون من تقييمها أو إبداء الرأي فيها، خاصة الجهات التي تتعاطى مع الفن، في ظل فقرنا الشديد للنقّاد المتخصصين والمحترفين، وإذا وجد بعض منهم، فتنقصهم النزاهة والرأي الحر.
• لكن البعض يمتلك القدرة والتقنية على رسم لوحة جيدة، ومعبّرة، ورغم ذلك يجنح إلى العبث والتقليد، برأيك أين يكمن السبب؟.
•• القدرة والتمكن في التقنية والتشكيل عند الفنان يمثلان أحد المعطيات الأساسية لبناء لوحة متكاملة وناجحة وجميلة، لكن للوحة مقومات أخرى أهمها المضمون في حالة التعبير عن ذات الفنان وإحساسه الداخلي، وعلاقة هذا الإحساس مع البيئة والمجتمع، أو باختصار هي تصوير علاقة الإنسان بالأرض، والجانب الثالث في اللوحة هو الخط أو التأليف، ولا يمكن أن ينتقص أي عنصر من هذه العناصر الأساسية وتبقى اللوحة واقفة دون حالة الميلان أو السقوط.
من هنا يظهر لنا أن اللوحة عالم متكامل صعب المنال، إنه أشبه بالوصول من حالة الحلم إلى الواقع المعاش. وبالتالي مهما جهد الفنان للوصول إلى لوحة تنال رضاه فإن حالة الوصول النهائي تعني نهاية العطاء الفني، وبالتالي هاجس البحث العميق والمثابر هو قدر الفنان المعطاء الذي يسعى إلى إبداع حقيقي.
• الفنان كما قلت هو ابن بيئته ومجتمعه، وبالتالي فهو يأخذ من هذه البيئة ولا بد أن يعطيها، لا نطالب الفنان أن يكون مصوراً وناقلاً للمرئي والمعاش فقط، لكن مقابل الرؤية التي هي نصف العمل الفني، هناك الرؤى التي يحملها الفنان ويحمّلها اللوحة، أنت إلى أين تود الوصول بلوحتك؟.
•• الرسم هو حالة، هو ليس نقلاً للواقع، لأن نقل الواقع هو تصوير فوتوغرافي يكون الحضور الإنساني فيه طفيفاً، قيمة العمل الفني هي ما يضيفه الفنان من ذاته ومن مشاعره، من أحلامه وطموحاته، من خياله البعيد الذي يبدأ في الواقع وينتهي إلى ما لا حدود. إنها حالة تعبير تتزاوج فيها حالة الفنان الداخلية مع أحاسيس الآخرين وأحلامهم وطموحاتهم، مع شغفهم بالتطلع باتجاه فرح قادم، نحو فجر مضيء ينهي بعض عتمة هذا الواقع، إنه إبداع الفنان في صنع حالة أخرى لا تمت إلى الواقع إلا بصلات خيوط أولى يلتقط فيها أطراف أحاسيس المشاهد وينقله إلى عالم آخر، وحالة أخرى إلى معبد صنعه الفنان في داخله، وشد المشاهد بخيوط سحرية ناقلا إياه بلمحة بصر إلى صومعة عالية، يشاهد فيها هذا العالم أو جزءا منه في لوحة صغيرة تشبه نافذة الفنان المطلة إلى عوالم لا تتوقف عن الامتداد.
وكل لوحة أخرى يصنعها الفنان هي نافذة جديدة تطل به من ظلال هذا العالم، إنه كساحر يخلق لنا من خلال اللون والريشة في مساحة محدودة الأطراف عالماً لا نشاهده إلا في أعماق أنفسنا وفي أحلامنا التي نعجز عن تحقيقها.
• المرأة في أعمالك تحضر بكثرة، قوية مشدودة دائما إلى أفق لا انكسار فيه ولا خضوع؟.
•• حضور المرأة يحتل نسبة عالية في أعمالي، في أحد معارضي الماضية، أحصت لجنة حقوق المرأة (19) عملاً من أصل (24 ) فيها حضور بارز للمرأة.
بالطبع هذه الأعمال لم تكن مقصودة عدديا، لكن المرأة تبقى حاضرة في ذهني ومخيلتي أثناء مرحلة التحضير لأي عمل أعالجه، على اختلاف موضوعات اللوحة.
المرأة بداية عنصر جميل وهام في سياق الحضور الانساني الذي كما قلت لا يغيب عن اعمالي، وفي حالة التعبير يطل وجه المرأة الذي يرمز إلى المعاناة والحلم والتطلع دائما نحو مستقبل افضل.
في عينيها تبرز النظرة اللامعة باتجاه الضوء، ويبرز عناقها مع الطفل واحتضانها العائلة حماية لها وقت الحصار والمعاناة. ويبرز شموخها في مرحلة النضال، وحركتها واندفاعها في مخاطر الانتفاضة.
هي رمز للأرض والعطاء، منها تنبع الخصوبة، وينبثق الجمال، وكما الأرض تعطينا الربيع، تمنحنا المرأة الدفء والحنان والجمال.
إنها باختصار عنوان الوطن والأمومة والحب والعشق.
وكلما تغيب عن اللوحة البيضاء حين يواجه الفنان تلك المساحة التي تحرضه على الخلق والإبداع، لعلها في البدء كانت، ولعلها في النهاية تكون حاضرة ، لنبدأ من جديد.

Tags

You may also like...

0 thoughts on “الفنان التشكيلي محمد الشاعر: العطاء الفني وليد المخاض بين الإنسان ومجتمعه”

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحميل المجلة

شرفتي.. المقال الصحفي…… هل ما زال؟!

رئيس التحرير
الدكتور وليد السعدي

Polls

هل انت مع منع لعبة البوكمن في البلاد العربية ؟

Loading ... Loading ...
Facebook
Google+
Twitter
YouTube
Instagram