عيــون مريم…………دعيني وأنا أقف أمام شاهدة الغياب أتوسد ترابك الطاهر لأرتاح

بقلم : مريم شقير أبو جودة

لا تزال هناك، وهنا..
لا يزال عبيرُها يملأ البيت، صوتُ خطواتها ينقر على عشب الروح، مثل غزالة شاردة وقع في عشقها قمرُ المساءات..
لا تزال عيناها تجوبان كل الغرف والزوايا تبحث عن أي اعوجاج لتقومه، عن غبار لتدل عليه الشغالة، وأنا أربت على جبينها والثم وجنتيها: يا أمي أريحي بالك، المنزل نظيف وكوسوما تتقن عملها..
من حسن حظي أنها عاشت عندي سنواتها الأخيرة، لا أقول أنني شبعت منها، لكنني إلى حدٍ ما ارتويت من صوتها وغمرتها، ومن جَمعة بناتها وأحفادها وحفيداتها كل عطلة أسبوع، تجلس في صدر الصالون كما الملكات، وكلنا نتحلق حولها ساعين إلى رضاها..
لقد صنعتْ أم يوسف مملكتها الكبيرة الدافئة والدافقة.. أسست عائلة تعدادها يتجاوز أصابع اليدين بعشرات المرات، وهي كانت تبني عائلتها قلبا فوق قلب، وزهرة قرب زهرة، وقطرة عرق تلتحم بأخرى حتى تشكل هذا النهر الكبير المتدفق من الأفراد.
ومن عائلة واحدة بَـنتها وربّتها أمي، تشكلت عشرات العائلات، وتفرعت بيوت، وانتشرت في أماكن كثيرة حتى أن بكرها يوسف وعائلته أوصلوا ذكرها إلى فرنسا وبعض مستعمراتها، وأنا وعائلتي قطنا في الحازمية، وأديبة عاشت في الضاحية، وهي الآن تنعم بقربك، سبقتنا إليك يا أمي وأظنها أخبرتك عن أحوالنا بعد رحيلك، ونعمت عاشت في بيروت، وسلوى في ضاحية بيروت، وحمدة لا تزال تزرع الورود وتقلم أشجار الزيتون في الجنوب، ونعيم في سد البوشرية، وماذا أقول عن الأحفاد والحفيدات وغالبيتهم تزوجوا وبنوا بيوتا لهم في أماكن متفرقة ..
ما أروعك يا أمي وأنت تنثرين حبات قمحك، وسّعت الدائرة ونثرتنا في كل مكان، فكنا حقول وفاء لليد التي زرعت الخير في كل مواسم العطاء..
لا أتخيل، ولا أصدق أن 18 عاما مرت على رحيلك.. لا شيء يدفعني لأعتبر أن رحيلك أمر واقع، فأنت لا تزالين هنا وهناك، تقاسمينني سجادة الصلاة، وأناولك ثوبك الأبيض، ونشرب معا قهوة الصباح، وعصير المساء..
ما زلت حتى اللحظة، كلما عصف بي حزن أو اشتدت علي أزمة، أسمع صوتك يأتي من كل الأماكن: يا مريم الله معك وأنا أحرسك بهدب العين..
الآن أحتاجك أكثر من أي وقت مضى، أريدك بشدة يا أمي، لم يعد صوتك يكفيني لأرتاح، أحتاج كفك الدافئة تلمسين بها جبيني وتقرئين من كتاب الله ..
أحتاج دعواتك لي بالصحة والرزق، الآن أدرك أن الله كان يفتح لي بوابات الرزق لأنك كنت تطلبين منه ذلك كل يوم خمس مرات..
فاغمريني بحضورك كما الأمس، أو دعيني وأنا أقف أمام شاهدة الغياب، أتوسد ترابك الطاهر لأرتاح.

You may also like...

0 thoughts on “عيــون مريم…………دعيني وأنا أقف أمام شاهدة الغياب أتوسد ترابك الطاهر لأرتاح”

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحميل المجلة

شرفتي.. المقال الصحفي…… هل ما زال؟!

رئيس التحرير
الدكتور وليد السعدي

Polls

هل انت مع منع لعبة البوكمن في البلاد العربية ؟

Loading ... Loading ...
Facebook
Google+
Twitter
YouTube
Instagram