“السيدة ملعقة” والفرانكوأراب”

بقلم: سارة الصايغ
مديرة التسويق والاتصال المؤسسي في مؤسسة دبي للإعلام

تستوقفني كثيراً الطريقة التي تتعامل بها الأجيال الجديدة مع اللغة العربية، التي لم تعُد تلقى ما تستحقه من الاهتمام بها كلغة عظيمة للتواصل والحصول على المعرفة العلمية والإعلامية، ليتراجع دورها في الفضاءات العامة والخاصة، مقابل إفساح المجال للغات الأجنبية.
وبشكل ما، رسخ في أذهان الشباب فكرة أن اللغة العربية لا تعبر عن العصر وتطوراته، ولا تجاري الثقافة السائدة في العالم الافتراضي، كما لا تعكس المستوى الثقافي والتعليمي والأثر الذي يرغب الشباب بالظهور به وتركه في نفوس الآخرين، وهو فهم قاصر ومغلوط ويجافي الحقيقة، فأنا وأبناء جيلي ممن تلقوا تعليماً دولياً جيداً وعاصروا طفرات الإنترنت والتواصل الاجتماعي والتطبيقات الرقمية، لم نهجر لغتنا الأم بل نجدها خير معين للتعامل مع التطورات.
وباتت تسيطر المصطلحات والكلمات الإنجليزية على حوارات الشباب، سواءً المباشرة أو الإلكترونية، بشكل بات يهدد باختفاء “العربية” كلغة تخاطب، فما الذي يؤدى إلى شعور هذا الجيل بالتفاخر بعدم تحدث العربية؟ لماذا لا يجدونها عصرية وتستحق الحفاظ عليها وعدم إهمالها، ولماذا لا يضعون في اعتبارهم ارتباط اللغة العربية بهويتهم، وأنها أحد عناصر تميزهم في العالم؟
وأنا هنا لست في صدد البحث في هذه الظاهرة أو تحديد منابعها، فذلك متروك للمتخصصين، لكنني أتذكر أن الوعي الثقافي والتعليمي والاجتماعي لدى الأطفال من أبناء جيلي في بداية ثمانينات القرن الماضي، شكّلته وأصّلته اللغة العربية، عبر أفلام الكرتون مثل الكابتن ماجد، وجريندايزر، وسالي، والسيدة ملعقة، وبرامج تعليمية مثل المناهل و افتح يا سمسم.
وعلى الرغم من ان أفلام الكرتون التي شاهدناها واستمتعنا بها في ذلك الوقت كانت في الغالب يابانية الإنتاج، إلا أنها كانت مترجمة أو مدبلجة باللغة العربية القوية والسلسة، ومصحوبة بأغان لطيفة، حفرت في ذاكرتنا ومشاعرنا الكثير من التعبيرات والجمل والألفاظ التي أصبحنا نستخدمها تلقائياً للتعبير عن أنفسنا في كافة المحافل. ومنذ ذلك الحين، لم يخفت شغفنا بلغتنا العظيمة على الرغم من إجادتنا للغات أجنبية، ولم نجد صعوبة في توظيف لغتنا الأم في شؤون العمل اليومي، بل على العكس، منحتنا إجادتنا للغة العربية قيمة إضافية لعملنا، وقدرات أكبر على التواصل.
وإلى الآن أجد نفسي وبشكل تلقائي أقوم بتشغيل نظام الترجمة لقراءة الترجمة المكتوبة باللغة العربية في أسفل الشاشة خلال مشاهدتي أحد الأفلام الأجنبية على التلفاز، وذلك على الرغم من إجادتي للغة الإنجليزية، وهي عادة اكتسبتها وتم تشجيعي عليها منذ طفولتي كوسيلة للتعلم الذاتي وتعزيز إجادتي للغة العربية عبر تخمين الطريقة التي ستترجم بها جملة ما، وظلت هذه العادة معي، واحرص على ان انقلها قدرالمستطاع.
والحديث هنا ليس عن اللغة العربية كمادة دراسية يتلقاها الطلاب في المدارس ويتعرفون على قواعدها وأصولها وآدابها وشعرها ونثرها، ويؤدون اختبارات للنجاح فيها، فذلك دور مدرسي وأكاديمي لا انتقاص منه، بل ما يهمني هنا هو مستوى تبني الشباب لهذه اللغة في حياتهم الاجتماعية خصوصاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي شهدت خلال السنوات الأخيرة ظهور أنماط لغوية جديدة تجمع بين اللغة العربية ولغات أخرى في أخلاط غريبة مثل “الأربيزي” و”الفرانكوأراب”، بل وظهور أبجدية عربية جديدة تكتب بحروف وأرقام لاتينية.
ومن المفارقات أن تعاني اللغة العربية من هذا القدر من الجفاء من قبل أبنائها الشباب، في الوقت الذي تحظى فيه بدعم كبير على المستويين الرسمي والشعبي، في شكل مبادرات حفظ ونشر وتعريب عديدة تقف وراءها مؤسسات حكومية وخاصة، جنباً إلى جنب مع إقبال واسع على تعلمها بين أوساط الجاليات الأجنبية المقيمة في دولة الإمارات. ولا تتوقف مبادرات دعم اللغة العربية على المستوى المحلي فقط، بل تسعى إلى ترسيخها في الدول والمجتمعات المتحدثة بها، وفي الدول ذات العلاقة المباشرة أو غير المباشرة بالثقافة العربية والإٍسلامية، من أجل جعل هذه اللغة في المكانة التي تليق بها بين اللغات القادرة على التطور ومواكبة موجات التحديث والتطور العالمية.
هذا عن المستوى الرسمي وشبه الرسمي، أما مجتمعياً فأنا أؤمن بدور الأسرة والإعلام في ترسيخ اللغة العربية في أذهان ووجدان الأبناء. فعلى الأسر العربية غرس الأنماط السلوكية الإيجابية في التعامل مع اللغة العربية، وحث أبنائها على المزيد من التبني والاستخدام لمفرداتها في التعامل اليومي داخل المنزل وفي الأماكن التي لا تتطلب استخدام لغات أجنبية، وإتاحة الفرصة للأطفال، وتشجيعهم على القراءة باللغة العربية في موضوعات غير دراسية، وتفضيل المنتجات الإعلامية العربية على غيرها.
فمشاهدة الأطفال لأفلام الكرتون باللغة العربية ستمكنهم من التقاط كلمات ومصطلحات عربية، كما أن قراءة الترجمة العربية للأفلام ومتابعة أو قراءة الأخبار باللغة العربية أيضاً من شأنه أن يمكن الشباب من إتقان المهارات اللغوية حتى ولو بنسبة بسيطة.
أما الإعلام فعليه مسؤولية وواجب غرس حب اللغة العربية والارتباط بها في نفوس الشباب والأطفال، عبر وسائل ميسورة ومتاحة، لكنها تحتاج إلى إرادة الفعل، فما أكثر خيارات البرامج ذات المحتوى العربي التي يمكن بثها تليفزيوناً وإذاعياً وعبر شبكة الإنترنت، بشكل عصري يواكب تطلعات وإمكانيات واهتمامات هؤلاء الشباب والأطفال.
ولا تنطلق دعوتنا للحفاظ على اللغة العربية من خطاب استعلائي، بقدر ما هي دعوة لصيانة قلب الهوية الوطنية ودرعها، وروح الأمة، وعنصر أصالتها، ووعاء فكرها وتراثها، وهذا ما يدلل عليه الشاعر مصطفى صادق الرافعي بقوله: “ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبار”.
فلغة القرآن الكريم، فضلاً عن كونها عنوان قوميتنا في الوطن العربي، تشكل أداة تواصل تضاهي وتتفوق على مثيلاتها من اللغات الأخرى في الجمال والدقة والرقة، كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي “إن الذي ملأ اللغات محاسناً… جعل الجمالُ وسره في الضاد”، لذلك فإتقانها والاعتماد عليها شرط لتقدمنا العلمي والثقافي والحضاري.

 

You may also like...

0 thoughts on ““السيدة ملعقة” والفرانكوأراب””

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تحميل المجلة

شرفتي.. المقال الصحفي…… هل ما زال؟!

رئيس التحرير
الدكتور وليد السعدي

Polls

هل انت مع منع لعبة البوكمن في البلاد العربية ؟

Loading ... Loading ...
Facebook
Google+
Twitter
YouTube
Instagram